كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} قراءة العامة {يَكُونَ} بالياء {دُولَةً} بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع، أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال، ورفع {دُولَةً} فاعلا ل (كان)، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع، وحينئذ لا خبر له. والقراء كلهم على ضمّ الدال من ال {دُولَةً} إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنّه فتح دالها.
قال عيسى بن عمر: الحالتان بمعنى واحد. وفرّق الآخرون بينهما، فقالوا: الدولة بالفتح الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر، والدُولة بالضمّ اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية، ومعنى الآية: كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي منها أيضًا يعني المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا ** وحكمك والنشيطة والفضول

فجعل الله سبحانه أمر الرسول (عليه السلام) بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعًا.
{وَمَا آتَاكُمُ}: أعطاكم {الرسول} من الفيء والغنيمة {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} من الغلول وغيره {فانتهوا}.
قال الحسن في هذه الآية: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ قال: حدّثنا أبو محمّد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفّار الحمصي قال: حدّثنا عطية بن بقيّة بن الوليد قال: حدّثنا عيسى ابن أبي عيسى قال: حدّثنا موسى بن أبي حبيب قال: سمعت الحكم بن عمير الثمالي وكانت له صحبة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه، يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}».
وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا الفريابي وعبيد الله بن أحمد الكناني قالا: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا معاوية بن هشام قال: حدّثنا سفيان الثوري، عن الأشتر، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرمًا وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك. فقال الرجل: اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟ قال: نعم {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.
{واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}.
{للفقراء} يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الاغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء {الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حبًا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة، حتى ذكر لنا أنّ الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتّخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
وروى جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا: كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله أنّهم فقراء، وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
{والذين تَبَوَّءُوا}: توطّنوا {الدار} أي اتّخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فأخر الله عليهم البناء. ونظم الآية: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حزازة وغيظًا وحسدًا {مِّمَّا أُوتُواْ} أي ممّا أعطوا المهاجرين من الفيء. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلاّ ثلاثة نفر كما ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك. {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} إخوانِهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}: فاقة وحاجة إلى ما هو يزول؛ وذلك أنّهم قاسموهم ديارهم وأموالهم.
وأخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد السيستاني قال: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم الثقفي قال: أخبرنا محمود بن خداش وسمعته يقول: ما أخذت شيئًا أشتري قط قال: حدّثنا محمّد بن الحسن السيستاني قال: حدّثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصابه الجهد فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني. فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) إلى أزواجه: هل عندكنّ شيء؟. فكلّهنّ قلن: والذي بعثك بالحقّ نبيًّا ما عندنا إلاّ الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة. ثم قال: من يضف هذا هذه الليلة يرحمه الله.
فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله. فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئًا. فقالت: ما عندنا إلاّ قوت الصبية. قال: قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئًا، ثم أسرجي فأبرزي، فاذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنّك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالى نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله. قال: فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئًا، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلمّا أخذ الضيف ليأكل قامت كأنّها تصلح السراج فأطفأته، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله (عليه السلام) فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه، حتى شبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتا طاويين. فلمّا أصبحا عَدوا إلى رسول الله (عليه السلام)، فلمّا نظر إليهما تبسّم ثم قال: لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة»
.
فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية.
قال أنس بن مالك: أُهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهودًا، فوجّهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأوّل، فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنّه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلمّا رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثارًا لصاحبه.
ويحكى عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيقه ومسحت وجهه، فإذا أنا به، قلت: أسقيك؟ فأشار أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر قال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قدمات، ثم رجعت الى هشام فإذا هو قدمات، ثم رجعت الى ابن عمي فإذا قد مات رحمه الله.
سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد النيسابوري قول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال: ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حدّ الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت: ماحدّ الزهد عندكم؟ فقال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمّد أحمد بن محمّد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول: سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
قال ابن عباس: «قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) يوم النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة.
فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}»
.
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل، يقال: فلان شحيح من الشُّح والشِّحّ والشحّة والشحاحة، قال عمرو بن كلثوم:
ترى اللحز الشحيح إذا أمرّت ** عليه لماله فيها مهينا

وفرّق العلماء من السلف بينهما.
فأخبرني الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي قال: حدّثنا إدريس بن عبد الكريم الحدّاد قال: حدّثنا عاصم بن علي بن عاصم، وأخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا ابن حبيب قال: حدّثنا ابن شاكر قال: حدّثنا عاصم بن علي قال: حدّثنا المعادي، عن جامع بن شداد، عن أبي الشعثاء قال:
قال رجل لعبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله سبحانه يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء. فقال: ليس ذاك الشحّ الذي ذكر الله سبحانه في القرآن، ولكن الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل.
الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} قال: يقول: هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشحّ الى أن يمنع شيئًا من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شحّ نفسه.
وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس.
وأخبرني أبي قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال: أخبرنا محمّد بن حمدون ابن خالد قال: حدّثنا محمّد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال: حدّثنا سليمان ابن بنت شراحيل قال: حدّثنا إسماعيل بن عبّاس قال: حدّثنا عمارة بن عديّة الأنصاري، عن عمّه عمر بن جارية، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «برئ من الشحّ من أدّى الزكاة، وقرى الضيف وأعطى في النائبة».
أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ بن عبد الله ابن محمّد الطائي قال: حدّثنا عبد الله بن زيد قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء قال: حدّثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها».
وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد بن سنان قال: حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: حدّثنا داود بن قيس الفرّاء، عن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشحّ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم».
وروى سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شحّ نفسي. لا يزيد على ذلك. فقلت له فيه، فقال: إنّي إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.
ويحكى أنّ كسرى قال لاصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشحّ أضرّ من الفقر؛ لأنّ الفقير إذا وجد اتّسع، والشحيح لا يتسع أبدًا.
{والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقولونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوّأوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألاّ تكون خارجًا من هذه المنازل.